U3F1ZWV6ZTI0NTMxNjAwMDAxODMzX0ZyZWUxNTQ3NjY1NDU0OTY0Mg==

السعادة الخفية

السعادة الخفية! 


أنضم للتعارف والزواج

أنا سيدة في أوائل الخمسينيات من عمري.. تزوجت وأنا صغيرة أنجبت أربعة أبناء ذكور.. وسعدت بهم كثيرا لكن روحي كانت تهفو دائما الي أن تكون لي بنت تشاركني الاهتمامات النسائية اللذيذة, وتحنو علي وأحنو عليها, فحملت من جديد واستجاب الله لدعائي فجاء مولودي الخامس بنتا طرت بها فرحا وسعد بها أبوها وأخوتها الذكور كثيرا, وأصبحت هذه البنت هي مصباح البيت الذي يضيئه بابتسامتها ورقتها وظرفها.. ونالت منا كل الحب والتدليل اللذين لم ينلهما أحد من أخوتها بهذا القدر من قبل.

وكبر الأبناء وتقدموا في مراحل التعليم.. وكبرت البنت وتقدمت في مدارج الحياة, فأصبحت صديقتي الأولي, ورفيقة كل أوقاتي, فالأبناء يخرجون الي أصدقائهم وحياتهم ومشاغلهم, أما ابنتي فهي معي دائما وما أن ترجع من المدرسة ثم الكلية فيما بعد حتي نجلس معا ونقوم بالواجبات المنزلية أو نشاهد مسلسلات التليفزيون.. أو نتحدث في كل الأشياء.. أو نرتب جدول أعمال البيت معا.. ونحدد متي سنقوم بغسل ملابس الأسرة في الغسالة.. ومتي نقوم بتنفيض البيت.. ومتي نضع ملابس الشتاء في الدواليب ونخرج ملابس الصيف, ونفعل كل ذلك يدا بيد مهما استعنا بمن تساعدنا فيه, وفي مواسم الامتحانات تسهر حبيبتي للمذاكرة وأسهر الي جوارها أعد لها سندوتشات الطعام واكواب الشاي, وانتظر عودتها من امتحان كل مادة بلهفة وخوف فاطمئن حين أراها مبتهجة.. ومتفائلة وأشعر بالقلق حين أراها ساهمة ومكتئبة, وحين تظهر النتيجة وتنجح تكون سعادتي طاغية, أما في الصيف فإن الأوقات تطول بنا.. فندخل المطبخ معا لاعداد طعام الغداء, ونجلس أمام التليفزيون بالساعات, ويطول بنا السهر كل ليلة, ونخرج معا لشراء ما تحتاج اليه من فساتين وأحذية..الخ.

ومضت بنا رحلة الحياة وتخرج الجميع في كلياتهم, وبمجرد تخرج ابنتي في كليتها تقدم اليها مهندس شاب من جيراننا يشهد له الجميع بالأدب والاحترام.. وتم عقد القران سريعا, وسعدت به ابنتي ورحبت به أنا واعتبرته ابني الخامس, وأصبح يناديني بـ ماما فأحسست ان قلبي قد انقسم نصفين: نصف لابنتي الحبيبة والآخر لخطيبها الشاب ولا مكان بعد ذلك في قلبي لحب آخر! وشغلت معي ابنتي باعداد جهازها.. وخرجنا معا عشرات المرات الي المحلات التجارية لشراء مستلزمات حياتها الجديدة وكانت فترة شراء الجهاز من أكثر فترات الاقتراب والتلازم بيننا.. وحرصت علي تلبية كل طلباتها وشراء أحسن ما تسمح امكانياتنا المادية به, وانتهي كل شيء وتحدد موعد الزفاف وكانت ليلة سعيدة من ليالي العمر تألقت فيها ابنتي بجمالها وسعادتها.. وانتقلت الي بيتها الجديد, وتلفت أنا حولي بعد أيام من زواجها فلم أجد نصف قلبي في ضلوعي واصابني الجنون, وبدأت أتمني استعادة ابنتي التي فقدتها بالزواج.. وأرجو ألا تتصور اني أردت حرمانها من زوجها.. فليس الأمر علي هذا النحو أبدا.. لكنني فقط قد استوحشت حياتي بعد انتقال ابنتي الحبيبة الي بيت زوجها وبدأت أتمني أن ترجع للاقامة معي فترات طويلة وليس في زيارات قصيرة تنتهي بأن يدعوها زوجها للخروج فتستجيب له صاغرة وتمضي معه! وشيئا فشيئا بدأ يحدث بينها وبين زوجها مايحدث بين أي زوجين شابين لم يتعود كل منهما بعد علي طباع الآخر وشخصيته, من خلافات بسيطة مشاجرات صغيرة ووجدتني ـ واعترف لك بذلك ـ أسعد سعادة خفية لا يدري بها أحد بما يقع بينهما من هذه المشاجرات لكي يحضرا الي للفصل فيها, وفي كل مرة يأتيان الي في أمر مماثل أطيل بقاءها معي لأطول فترة ممكنة.. وأطلب من زوج ابنتي أن يتركها معي لفترة حتي تهدأ أعصابها.. وكانت ابنتي متعاطفة معي علي طول الخط أما زوجها فكان يتجاوز عن اهاناتي له ويفهم ما أفعل ولا يوافقني فيه لكنه لايعترض عليه كذلك, ثم بدأت ألح علي ابنتي وزوجها في أن يكثرا من زيارتهما لي.. وكانت أسعد أوقاتي هي وقت بداية الزيارة وأتعسها عندي هو نهايتها حين يهمان بالانصراف فأشعر بأن روحي تنسحب مني وان هذا الشاب يخطف ابنتي ويبتعد بها عني, وبعد فترة أخري طلبت منه أن تزورني ابنتي يوما بعد يوم, فاعتذر عن عدم الاستجابة لرغبتي هذه بحجة مشاغل العمل وضيق الوقت, واستأت لذلك في أعماقي وترصدت أول مشكلة وقعت بينهما بعد ذلك فأصررت علي بقاء ابنتي معي لفترة طويلة حتي تهدأ أعصابها.. ويتعلم هو كيف يعامل زوجته باحترام.. ورفضت عودتها الي بيته باصرار بالرغم من اعتذاراته وتوسلاته.. وتبعتني ابنتي في موقفي من زوجها وتجرأت عليه باهانته كما كنت أفعل معه, وبقيت ابنتي معي.. وطالت فترات وجودنا معا واحاديثنا وسهرنا أمام التليفزيون كما كنا نفعل في أيامنا الجميلة.. وكلما سعي زوجها لاستعادتها تصديت له واهنته وطالبته بما لايستطيع القيام به حتي يئس مني ومنها تماما وابتعد.. ولم يعد يكرر هذه المحاولات.. أو يتصل بي أو ابنتي, الي أن علمنا فجأة انه سافر للعمل في دولة عربية بدون أن يخطرنا بذلك أو يسعي لاستعادة ابنتي, ومضت الشهور بلا أي اتصال من جانبه.. وبدأت أشعر بأنني قد تسببت في انهاء علاقته الزوجية بابنتي, واراجع نفسي فيما حدث ثم هاجمني المرض منذ أسابيع فشعرت بأنني قد ظلمت هذا الشاب كثيرا وحرمته من ابنتي وحرمتها منه, وزاد من شعوري بالذنب ما بدأت ألاحظه علي ابنتي من وجوم واكتئاب.. ولهذا فإني أريد أن أخاطب هذا الشاب من خلال بابك الذي يحرص علي قراءته وأرجوه أن يصفح عما فعلت به ويعيد علاقته بابنتي قبل أن أقابل وجه رب كريم سبحانه وتعالي, يسألني عما فعلت, ومع استعدادي الكامل لفعل أي شيء يرضي هذا الشاب ويعوضه عما فات.. فهل يقبل هذا النداء؟


ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

الفرق بين الحب السوي والحب المريض, هو أن الأول لا يتجاوز صاحبه القصد في سعيه الي الاشباع العاطفي من المحبوب ولا يغفل خلال ذلك عن صالحه وسعادته, فاذا تعارض هذا السعي مع ما فيه صالح المحبوب رد نفسه عنه وتصبر علي بعض الحرمان منه. أما الحب الأناني المدمر فإنه لا يراعي في هذا السعي مصلحة المحبوب ولا سعادته ولا حقوق الآخرين عليه فيضر به ضررا بالغا من حيث لايرجو ولايريد, ويكون وبالا عليه بدلا من أن يكون زادا له وواحة يهجع اليها.

وحب الأمهات لأبنائهن كما فطرهن الله سبحانه وتعالي عليه, هو بالضرورة من ذلك النوع السوي النبيل الذي يقوم علي العطاء لهم والتضحية من أجلهم والتصبر علي شيء من الحرمان العاطفي منهم حين يشبون عن الطوق وتتفتح قلوبهم ومشاعرهم لشركاء الحياة وتصبح لهم حياة مستقلة عن حياتهم السابقة في كنف أمهاتهم وآبائهم.

وأنت ياسيدتي قد غاليت في الالتصاق النفسي بابنتك المحبوبة حتي كأنما قد نسيت القابلة ان تقطع الحبل السري الذي يربط بينكما عند ولادتها, وجاوزت حد القصد والاعتدال في رغبتك في الاستمتاع بقربها منك والاستئثار بها دون زوجها.. وبدلا من أن تحاولي تعويض افتقادك العاطفي لها بعد زواجها بتدريب النفس علي القبول بحقائق الحياة التي لا مفر من القبول بها.. وترشيد مشاعرك تجاهها, واستبدال وجودها الفعلي في حياتك بحضورها العاطفي في قلبك ومشاعرك وسعادتك بسعادتها مع زوجها واستقرار حياتها, سعيت بوعي أو بغير وعي الي استردادها الي حضانتك العاطفية من جديد, وتعاملت مع زوجها الشاب كما تتعامل الأم مع خاطف ابنتها وليس مع شريك الحياة الذي زفتها اليه الأم وتمنت لها السعادة معه, وشعرت بالسعادة الخفية لأول بادرة خلاف وقعت بينها وبينه وانسقت وراء رغبتك الأنانية في الاستئثار بابنتك دون زوجها, فنفخت في نار الخلافات الصغيرة بينهما بدلا من اخمادها والتعامل معها بحكمة الأم الراغبة في استقرار حياة ابنتها ونجاح زواجها.

وكل ذلك ليس من الحب الحقيقي لابنتك في شيء, وانما هي الرغبة القهرية لديك في الاستمرار في امتلاك ابنتك والسيطرة علي حياتها والتحكم فيها.

ولأن الحق والباطل قد ينبعان أحيانا من نبع واحد في النفس البشرية كما يقول لنا شاعر الألمان الأعظم جوته, فإن القلب الذي نبع منه هذا الحب الطاغي لابنتك هو أيضا الذي نبعت منه تلك الرغبة غير الرشيدة في الاستئثار بها دون زوجها لأطول وقت ممكن ولو أدي ذلك كما حدث الي تدمير حياتها الزوجية.

فلا عجب إذن في أن يضيق زوج ابنتك باغتصابك لها منه وحرمانه منها.. ورفضك لقبول اعتذاراته وتوسلاته لاعادتها اليه فيبتعد عنكما تاركا للأيام أن تعلمكما معا ما لا تعلمان.. فإذا كانت ابنتك قد تعاطفت معك دائما علي حساب زوجها.. وجارتك في التجرؤ علي اهانته كما كنت تفعلين معه, فلا عجب في ذلك أيضا لأنها بدلا من أن تجد الأم التي تردها عن غيها وترشدها الي حسن معاملة زوجها وما فيه خيرها وسعادتها قد وجدت من تسعد بتجرئها علي زوجها وخلافاتها معه وهجرها له واستقرارها في بيت أسرتها بدلا من عش الزوجية.

وقديما استشهد الإمام أبوحامد الغزالي في مقدمته كتابه احياء علوم الدين وهو يتحدث عن فساد الأحوال في زمنه ومسئولية رجال الدين والعلماء عن ذلك ببيت من الشعر يقول:

يامعشر القراء يا ملح البلد

ما يصلح الملح اذا الملح فسد

وعلي غرار ذلك استطيع أن أقول لك أيضا:

ما يصلح البنت اذا الأم قدمت لها المثل السييء في معاملة زوجها بدلا من المثل الصحيح.. واذا هي استسلمت لأهوائها ورغبتها في امتلاك ابنتها دون شريكها بدلا من أن تنبهها الي واجباتها تجاهه وتعينها علي الاستقلال النفسي والعاطفي عنها.

ان مسئوليتك ياسيدتي عن تدمير علاقة ابنتك بزوجها كبيرة وهي مسئولية قد بدأت منذ زمن طويل حين أسرفت في تدليلها في صغرها وغمرتها بحبك وعطفك, واعتبرتها مصباح البيت الوحيد بالرغم من وجود أربعة مصابيح أخري فيه, وغاليت في تعويدها علي الاعتماد النفسي عليك في كل شيء الي حد أن عجزت عن التواؤم مع حياتها المستقلة عنك مع زوجها, غير أنني أري في النهاية أن أخطاءك وأخطاء ابنتك لم تذهب كلها سدي بالرغم من كل شيء.. وانك قد بدأت تدركين فداحة جناية حبك الأناني لابنتك علي زواجها وسعادتها.., كما أري ان ابنتك قد بدأت هي الأخري في ادراك ذلك والتنبه له, ولهذا فإني أنشر رسالتك طالبا من زوج ابنتك ان يقرأها جيدا ويمعن التفكير فيما جاء علي لسانك فيها.. وان يتصرف وفقا لما يستشعره منها من صدق ندمك وندم ابنتك علي اخطائكما في حقه.., راجيا ألا يكون الوقت قد فات لاصلاح الأخطاء والتجاوز عنها.. والسلام.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة